اقتضت حكمة الله سبحانه وهو المالك لهذا الكون، الفعّال لما يريد، أن يُفضّل بعض الأزمنة على بعض، ويفضّل بعض الأمكنة على بعض، ويفضّل بعض خلقه على بعض، كما قيل: "لله خواص من الأزمنة والأمكنة والأشخاص". فاختار سبحانه من خلقه المؤمنين والصديقين والشهداء، وفضل عليهم النبيين والمرسلين وفضل المرسلين فقال :"تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَات" (البقرة: 253).
واختار من البقاع المساجد، وفضّل منها المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، واختار من الأيام يوم الجمعة، ويوم عرفة وأيام التشريق، وعشر ذي الحجة الأولى وعشر رمضان الآخرة، ومن الشهور شهر رمضان والأشهر الحرم، فجعل لها مزيد فضل على باقي الشهور، فجعلها مواسم خير وطاعة وجدٍّ واجتهاد، يبتغى فيها من الله الأجر والثواب.
وشهرنا هذا الذي نحياه أعني شهر الله المحرم من هذه الأشهر الفاضلة، وأيامه أيام كريمة؛ يلزم التذكير بفضلها، وما شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته فيها من الطاعة والعبادة، وسنتحدث بعون الله عن بعض تلك الأمور:
أولا: فضل الأشهر الحرم
شهر المحرم شهر حرام حرمه الله مع ما حرم من الأشهر الحرم التي اختارها على بقية الشهور واختصها بفضله، فأعلى قدرها، وعظم شأنها، وجعل لها مكانة خاصة؛ فقال عز من قائل: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ " (التوبة: 36).
وهذه الأشهر الأربعة منها ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ ثم الرابع هو شهر رجب الحرام، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع حين قال: "إن الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" (متفق عليه).
لقد كانت هذه الأشهر معظمة في شريعة إبراهيم، واستمرت كذلك حتى إن العرب قبل الإسلام وهم المشركون كانوا يعظمونها أيما تعظيم، ويحفظون حرمتها حتى إن الرجل ليلقى قاتل أبيه وقاتل أخيه فلا يمسه بأذى حتى تخرج الأشهر الحرم، وجاء الإسلام فأبقى لهذه الشهور حرمتها ونهى المسلمين أن ينتهكوها بارتكاب ما حرّم الله من المعاصي والآثام؛ فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ" (المائدة: 2)، "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ " (التوبة: 36).
قال ابن كثير: أي في هذه الشهور فإنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها.
قال ابن عباس: أي فيهن كلهنَّ؛ ثم اختص منهنَّ أربعة فجعلهنَّ حرامًا وعظم حرماتهنَّ، وجعل الذنب فيهنَّ أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم.
قال قتادة: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا منه فيما سواها.
والخلاصة: إنه كما أن العمل الصالح في هذه الأيام يزداد أجره وثوابه؛ فليغتنم المسلم تلك الفرصة ويكثر من الطاعات والقربات، وكذلك الذنب يزداد وزره وعقابه، فليتق العبد ربه ويجتنب فعل المنكرات والمنهيات.
الأمر الثاني: استحباب مطلق الصيام في المحرم
فقد جاء الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الله يحب الصوم فيه، بل إنه أحب الصيام إلى الله بعد الفريضة: فقد روى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فسأله عن أفضل الصلاة بعد المكتوبة، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان، فقال: أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل وأفضل الصيام بعد شهر رمضان الشهر الذي يدعونه المحرم" وقد رواه مسلم أيضا.
الأمر الثالث: صيام يوم عاشوراء
يقول ابن رجب عليه رحمه الله: يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة وحرمة قديمة، وصومه لفضله كان معروفًا بين الأنبياء، وقد صامه نوح وموسى عليهما السلام.
وصامه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين بصيامه؛ كما في حديث ابن عباس في الصحيحين قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياما فقال ما هذا قالوا هذا يوم أنجى الله فيه موسى وأغرق فيه فرعون فصامه موسى شكرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه" (صحيح ابن ماجه).
وقد كان هذا الأمر قبل فرض صيام رمضان، فلما فرض رمضان خيّرهم المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فمن شاء صام ومن شاء أفطر، كما جاء ذلك في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه، والمسلمون. قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عاشوراء يوم من أيام الله. فمن شاء صامه ومن شاء تركه".
ومع ذلك يبقى صيام يوم عاشوراء مستحب وفضيلة عظيمة، لما رواه مسلم عن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء؟ فقال: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". وكذلك ما رواه أحمد وغيره عن أمّنا حفصة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع صيام يوم عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر".
ولما رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس قال: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر، يعني شهر رمضان".
والذي انتهى إليه حكم صيام عاشوراء صورتان أو ثلاثة:
1- صوم يوم قبله فيصام التاسع والعاشر: لحديث ابن عباس عند مسلم: "إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، فلم يأتِ العام المقبل حتى توفيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم".
2- صيام يوم قبله أو يوم بعده؛ فيتخير الإنسان صوم التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر؛ لما رواه أحمد: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، وصوموا يومًا قبله ويومًا بعده". وفي رواية: "أو بعده".
3- صيام يوم قبله ويوم بعده؛ فيصوم الإنسان ثلاثة أيام: التاسع والعاشر والحادي عشر؛ ودليلها حديث أحمد السابق، وكذلك ما رواه أبو موسى المديني: "لئن بقيت لآمرنَّ بصيام يوم قبله ويوم بعده".
فمن عجز عن صيام يوم أو يومين مع عاشوراء، فلا يحرم نفسه من الأجر وليصم يوم العاشر وحده، وقديمًا قيل: ما لا يُدرك جُله، لا يترك كُله.